كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السعدي المسمى بـ «تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان» **


‏[‏64 ـ 66‏]‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كثيرًا مِنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ‏}

يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏ أي‏:‏ عن الخير والإحسان والبر‏.‏

{‏غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا‏}‏ وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم‏.‏ فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان‏.‏ فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم‏.‏

فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏ لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم‏.‏

فيداه سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارًا، يفرج كربًا، ويزيل غمًا، ويغني فقيرًا، ويفك أسيرًا ويجبر كسيرًا‏,‏ ويجيب سائلاً، ويعطي فقيرًا عائلًا، ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين‏.‏ وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه‏,‏ بل هو كما أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده‏.‏

وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم، لهلكوا، وشقوا في دنياهم، ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى‏,‏ يحلم عنهم، ويصفح، ويمهلهم ولا يهملهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَزِيدَنَّ كثيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا‏}‏ وهذا أعظم العقوبات على العبد، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة‏,‏ وفلاح الدارين، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده‏,‏ توجب عليهم المبادرة إلى قبولها‏,‏ والاستسلام لله بها‏,‏ وشكرا لله عليها‏,‏ أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره، وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة‏.‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ فلا يتآلفون، ولا يتناصرون‏,‏ ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم‏,‏ متعادين بأفعالهم‏,‏ إلى يوم القيامة ‏{‏كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ‏}‏ ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم ‏{‏أَطْفَأَهَا اللَّهُ‏}‏ بخذلانهم وتفرق جنودهم‏,‏ وانتصار المسلمين عليهم‏.‏

{‏وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا‏}‏ أي‏:‏ يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل، والتعويق عن الدخول في الإسلام‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك‏.‏

‏[‏ثم قال تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏ وهذا من كرمه وجوده، حيث ذكر قبائح أهل الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة، دعاهم إلى التوبة، وأنهم لو آمنوا بالله وملائكته، وجميع كتبه، وجميع رسله، واتقوا المعاصي، لكفر عنهم سيئاتهم ولو كانت ما كانت، ولأدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين‏.‏

{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِن رََّبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ قاموا بأوامرهما ونواهيهما، كما ندبهم الله وحثهم‏.‏

ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه، من الإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالقرآن، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم، أي‏:‏ لأجلهم وللاعتناء بهم ‏{‏لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لأدر الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ‏}

‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من أهل الكتاب ‏{‏أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ‏}‏ أي‏:‏ عاملة بالتوراة والإنجيل، عملا غير قوي ولا نشيط، ‏{‏وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ والمسيء منهم الكثير‏.‏ وأما السابقون منهم فقليل ما هم‏.‏

‏[‏67 ‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}

هذا أمر من الله لرسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية‏.‏ فبلغ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله‏.‏ فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين‏.‏

{‏وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ‏}‏ أي‏:‏ لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك ‏{‏فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ أي‏:‏ فما امتثلت أمره‏.‏

{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيه ـم بيد الله وقد تكفل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ المبين، فمن اهتدى فلنفسه، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للخير، بسبب كفرهم‏.‏

‏[‏68‏]‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كثيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏}

أي‏:‏ قل لأهل الكتاب، مناديا على ضلالهم، ومعلنا بباطلهم‏:‏ ‏{‏لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ من الأمور الدينية، فإنكم لا بالقرآن ومحمد آمنتم، ولا بنبيكم وكتابكم صدقتم، ولا بحق تمسكتم، ولا على أصل اعتمدتم ‏{‏حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ‏}‏ أي‏:‏ تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما واتباعهما، والتمسك بكل ما يدعوان إليه‏.‏

‏{‏و‏}‏ تقيموا ‏{‏ما أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ‏}‏ الذي رباكم، وأنعم عليكم، وجعل أجلَّ إنعامه إنزالَ الكتب إليكم‏.‏ فالواجب عليكم، أن تقوموا بشكر الله، وتلتزموا أحكام الله، وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده‏.‏

{‏وَلَيَزِيدَنَّ كثيرًا مِّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}

‏[‏69‏]‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}

يخبر تعالى عن أهل الكتب من أهل القرآن والتوراة والإنجيل، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد، وأصل واحد، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ‏[‏والعمل الصالح‏]‏ فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فله النجاة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها‏.‏ وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة‏.‏

‏[‏70، 71‏]‏ ‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ عهدهم الثقيل بالإيمان بالله، والقيام بواجباته التي تقدم الكلام عليها في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏}‏ إلى آخر الآيات‏.‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا‏}‏ يتوالون عليهم بالدعوة، ويتعاهدونهم بالإرشاد، ولكن ذلك لم ينجع فيهم، ولم يفد ‏{‏كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ‏}‏ من الحق كذبوه وعاندوه، وعاملوه أقبح المعاملة ‏{‏فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ‏}

{‏وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم لا يجر عليهم عذابا ولا عقوبة، فاستمروا على باطلهم‏.‏ ‏{ثم عَمُوا وَصَمُّوا‏}‏ عن الحق ‏{‏ثُمَّ‏}‏ نعشهم و ‏{‏تاب الله عَلَيْهِمْ‏}‏ حين تابوا إليه وأنابوا ‏{‏ثُمَّ‏}‏ لم يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة‏.‏ ‏{‏ثم عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ‏}‏ بهذا الوصف، والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر‏.‏

‏[‏72 ـ 75‏]‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏

يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية، والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى، وقال لهم‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ‏}‏ فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق‏.‏

{‏إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ‏}‏ أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره‏.‏ ‏{‏فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ‏}‏ وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له ـ وهو العبادة الخالصة ـ لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار‏.‏

{‏وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم‏.‏

{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ‏}‏ وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة‏:‏ الله، وعيسى، ومريم، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا‏.‏

وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة‏؟‏‏!‏ كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين‏؟‏‏!‏ كيف خفي عليهم رب العالمين‏؟‏‏!‏ قال تعالى ـ رادًا عليهم وعلى أشباههم ـ ‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه‏.‏ فكيف يجعل معه إله غيره‏؟‏ ‏"‏تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏"‏‏.‏

ثم توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}

ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، عما كانوا يقولونه ‏{‏وَيَسْتَغْفِرُونَهُ‏}‏ عن ما صدر منهم ‏{‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء، ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات‏.‏

وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ‏}

ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق، فقال‏:‏ ‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ أي‏:‏ هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية‏.‏

‏{‏وَأُمَّهُ‏}‏ مريم ‏{‏صِدِّيقَةٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا أيضًا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء‏.‏ والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح‏.‏ وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلًا وشرفًا‏.‏ وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ‏}‏ فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله‏؟‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد‏.‏

ولما بين تعالى البرهان قال‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ‏}‏ الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئًا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم‏.‏

‏[‏76‏]‏ ‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}

أي‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم أيها الرسول‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ من المخلوقين الفقراء المحتاجين، ‏{‏ما لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا‏}‏ وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع، ‏{‏وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ‏}‏ لجميع الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات‏.‏

‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة، فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة، ويخلص له الدين‏.‏

‏[‏77 ـ 81‏]‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كثيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كثيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كثيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}

يقول تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم‏.‏

وكغلوهم في بعض المشايخ، اتباعا ل ـ ‏{‏أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ تقدم ضلالهم‏.‏

‏{‏وَأَضَلُّوا كثيرًا‏}‏ من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه‏.‏ ‏{‏وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ أي‏:‏ قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ أي‏:‏ طردوا وأبعدوا عن رحمة الله ‏{‏عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَـى ابْنِ مَرْيَـمَ‏}‏ أي‏:‏ بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم، وعاندوها‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الكفر واللعن ‏{‏بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ بعصيانهم لله، وظلمهم لعباد الله، صار سببًا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله، فإن للذنوب والظلم عقوبات‏.‏

ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلًات، وأوقعت بهم العقوبات أنهم‏:‏ ‏{‏كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ‏}‏ أي‏:‏ كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضًا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك‏.‏

وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه، وإنما كان السكوت عن المنكر ـ مع القدرة ـ موجبا للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة‏:‏

منها‏:‏ أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت‏.‏ فإنه ـ كما يجب اجتناب المعصية ـ فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية‏.‏

ومنها‏:‏ ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها‏.‏

ومنها‏:‏ أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلًا‏.‏

ومنها‏:‏ أن ـ في ترك الإنكار للمنكر ـ يندرس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية ـ مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها ـ يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرَّم الله حلالاً‏؟‏ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا‏؟‏‏"‏

ومنها‏:‏ أن السكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه، ومنها ومنها‏.‏

فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم‏.‏

{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ ‏{‏تَرَى كثيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ بالمحبة والموالاة والنصرة‏.‏

{‏لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ هذه البضاعةَ الكاسدة، والصفقةَ الخاسرة، وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء، والخلود الدائم في العذاب العظيم، فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير الكريم، وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم‏.‏

{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ فإن الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه، يوجب على العبد موالاة ربه، وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به وعاداه، وأوضع في معاصيه، فشرط ولايةِ الله والإيمانِ به، أن لا يتخذ أعداء الله أولياء، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط، فدل على انتفاء المشروط‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّ كثيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ خارجون عن طاعة الله والإيمان به وبالنبي‏.‏ ومن فسقهم موالاةُ أعداء الله‏.‏